languageFrançais

حصون الإحتلال: تاريخ الملاجئ الإسرائيلية من الهَشومير إلى المماد

في ظل النزاعات المستمرة والتصعيد المتكرر الذي يشنه الاحتلال، والذي يمتد تأثيره من غزة إلى الضفة الغربية والحدود اللبنانية، وصولاً إلى اليمن وإيران، تحوّلت الملاجئ والغرف المحصنة في إسرائيل من مجرد مرافق احتياطية إلى عنصر حيوي وأساسي في هندسة المستوطنات والمدن، خاصة تلك المحاذية لقطاع غزة والمناطق الحدودية. 

هذه التحصينات، التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من النسيج العمراني والاجتماعي، ليست مجرد هياكل خرسانية صماء، بل تجسّد استراتيجية دفاع مدني شاملة، وتُعد انعكاساً عميقاً لثقافة التأهب القصوى التي باتت سمة مميزة للحياة اليومية للاحتلال.

ولكن، بعيداً عن الصورة التي يُروّج لها الكيان الصهيوني عن كفاءة هذه الملاجئ كضمان للأمن للجميع، تبرز تساؤلات جوهرية حول حقيقة طبيعتها وأنواعها المختلفة، وكيف أصبحت شرطاً لا غنى عنه للحصول على تراخيص البناء في الأراضي الفلسطينية المحتلة. والأهم من ذلك، أن هذه الملاجئ التي يُفترض أن تكون ملاذاً آمناً، كشفت عن وجه آخر للعنصرية والتمييز الصارخين، خاصة عندما تُغلق أبوابها في وجه أبناء الأرض الأصليين وغير اليهود، لتُصبح بذلك شاهداً حياً على تناقضات هذا المحتل.

كيف ومتى انطلقت فكرة الملاجئ والتحصينات؟

مع بدء الهجرات الصهيونية الأولى إلى فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أُنشئت مستوطنات زراعية جديدة (مثل ريشون لتسيون، بيتح تكفا، ولاحقًا الكيبوتسات والموشافات). 

هذه المستوطنات واجهت رفضًا وتصدّيًا من السكان العرب المحليين، غالبًا بسبب النزاع على الأراضي والموارد. هذا الواقع دفع المستوطنين الأوائل نحو الاعتماد على حراس المستوطنات الذين أطلق عليهم اسم "هَشومير" ابتداءً من سنة 1909.

"الهَشومير" شرعوا في بناء "تحصينات" بدائية في معظمها، تتكون من جدران حجرية وأبراج مراقبة ومبانٍ وُضعت بشكل استراتيجي لخلق محيط دفاعي. وقد استُخدمت هذه الطريقة على نطاق واسع في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي.

*عناصر من منظمة هشومير 

تطوّرت هذه التحصينات خلال فترة الانتداب البريطاني (1920-1948) مع تصاعد التوتر بين السكان العرب واليهود ومعارضة الهجرة الصهيونية ومصادرة الأراضي، تم حلّ منظمة الهشومير وحلت محلها منظمة الهاغاناه (منظمة عسكرية يهودية تأسست يوم 15 جوان 1920).

وسّعت الهاغاناه عملياتها بشكل كبير، وقامت إلى جانب التدريب والتسليح، بتحسين المستوطنات خاصة تلك المعزولة، وبناء منشآت ذات جدران سميكة يمكنها مقاومة إطلاق النار من الأسلحة الصغيرة، بالإضافة إلى بناء ممرات تحت الأرض ومخابئ.


* صورة لأفراد من الهاغاناه


وتعمّقت الحاجة لإنشاء الملاجئ مع إعلان قيام دولة الاحتلال سنة 1948، حيث استشعر الكيان المحتلّ الحاجة إلى بناء المزيد من الملاجئ في المستوطنات والمناطق التي سيطرت عليها للاحتماء بها والاختباء من أصحاب الأرض.

قانون يُلزم المستوطنين ببناء الملاجئ

سنة 1951، تمّ سنّ قانون أصبح بموجبه بناء الملاجئ والغرف المحصّنة في أيّ مبنى جديد إلزاميًا، وهو شرط للحصول على رخصة بناء في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، خاصة في المناطق القريبة من غزة والحدود اللبنانية.

لكن ضعف جاهزية هذه الملاجئ في التصدي للهجمات ظهر بوضوح سنة 1991 عندما أطلقت العراق عشرات صواريخ سكود على تل أبيب. عندها تقرّر تأسيس جبهة داخلية تابعة لجيش الاحتلال (حلّت محل الدفاع المدني) تولت بناء الملاجئ العامة وتسييرها وصيانتها.

وبعد العدوان الإسرائيلي على لبنان في جويلية 2006، قرّر الكيان الصهيوني بناء المزيد من الملاجئ في المناطق الشمالية للأراضي المحتلّة للتصدّي لصواريخ حزب الله والمقاومة في قطاع غزة.

تطورت الملاجئ الإسرائيلية وتنوعت وتعمقت متطلبات بنائها على مدار العقود اللاحقة

في البداية الملاجئ كانت عامة يُطلق عليها "ميكلت"، بعدها انتشرت الـ"ماماك" قبل أن تظهر "المماد" وهي غرف محصنة داخل المنازل الخاصة. ويشترط القانون ألا تقل مساحة الملاجئ الخاصة بالمنازل عن 5 أمتار مربعة.

أنواع الملاجئ

تعتمد إسرائيل نظامًا متعدد المستويات للملاجئ لتوفير أقصى قدر من الحماية للمستوطنين، بدءًا من المستوى الفردي داخل المنازل وصولًا إلى الملاجئ العامة الكبيرة:

المماد (Mamad): الحصن الخاص

يُعد الـ "مماد" (غرفة محمية) هو حجر الزاوية في نظام الملاجئ، وهو عبارة عن غرفة محصنة داخل كل شقة سكنية أو منزل خاص. 

تفرض القوانين الإسرائيلية بناء هذه الغرفة في جميع المباني السكنية الجديدة، وحتى في عمليات التجديد الكبرى. وتكون جدران الـ"مماد" من الخرسانة المسلحة السميكة للغاية، وتُزود بأبواب ونوافذ فولاذية ثقيلة مصممة لمقاومة الشظايا والانفجارات. غالبًا ما تحتوي هذه الغرف على أنظمة تهوية خاصة، ونقاط اتصال للهاتف والكهرباء، وأحيانًا تجهيزات للطوارئ مثل المياه المعلبة ومعدات الإسعافات الأولية. الهدف الرئيسي للمماد هو توفير حماية فورية وسريعة للسكان دون الحاجة إلى مغادرة منازلهم، مما يقلل من وقت الاستجابة عند إطلاق صافرات الإنذار.

الماماك (Mamak): الحماية الجماعية الداخلية

يشبه الـ"المماد" في مواصفاته الهندسية، لكنه يخدم أغراضًا جماعية. يُبنى الماماك عادةً في المباني السكنية الكبيرة (مثل العمارات السكنية متعددة الطوابق) أو في المؤسسات والمدارس. يوفر هذا الملجأ المشترك حماية لمجموعة من السكان أو المستخدمين داخل نفس المبنى.

الميكلت (Miklat): الملاجئ العامة تحت الأرض

الـ"ميكلت" هي ملاجئ عامة أكبر حجمًا، توجد غالبًا تحت الأرض في الأماكن العامة، مثل الحدائق والشوارع أو تحت المباني الحكومية. تديرها البلديات، وهي مصممة لاستيعاب مئات الأشخاص. تتميز هذه الملاجئ بوجود أنظمة تهوية متطورة، ومرافق صحية ومصادر مياه، وأحيانًا مطابخ صغيرة. مخصصة للمارة أو للسكان الذين لا يمتلكون ملاجئ خاصة في منازلهم.

المغونيت (Migunit): الملاجئ المؤقتة سريعة الانتشار

الـ "مغونيت" (وحدة حماية) هي ملاجئ خرسانية صغيرة ومتنقلة توضع فوق الأرض في الأماكن المكشوفة، مثل محطات الحافلات أو مفارق الطرق أو مداخل البلدات القريبة من المناطق الحدودية. تُصنع هذه الوحدات من الخرسانة المسلحة الثقيلة وتوفر حماية من الشظايا والصواريخ قصيرة المدى. نظرًا لسهولة نقلها وتركيبها، تُستخدم "المغونيت" بشكل خاص في المناطق التي تتعرض لتهديدات متكررة وتتطلب استجابة سريعة.

أكثر من مليون ملجأ.. تتضمن حانات وحلبات رقص وأماكن عبادة

يُعدّ الاختباء جزءًا من الحياة اليومية للإسرائيليين وخط الدفاع الأخير في أوقات الحرب، مما جعل الملاجئ عنصرًا لا يتجزأ من ثقافة البناء والتخطيط العمراني، وحسب البيانات الرسمية، يمتلك الكيان الصهيوني أكثر من مليون ملجأ بمختلف أنواعها، تكفي لاستيعاب حوالي 65% من السكان في حالات الطوارئ.

وفقًا لآخر إحصائيات قام بها قسم الأبحاث في الكنيست الإسرائيلي ونُشرت سنة 2021، تمّ بناء أكثر من 700 ألف ملجأ خاص.

في البداية، ركزت هذه الملاجئ بشكل أساسي على توفير مكان آمن للاختباء، مع جدران خرسانية سميكة وأبواب ونوافذ فولاذية مقاومة للانفجارات. وكانت تحتوي عادةً على مواد غذائية ومياه للشرب وأجهزة اتصال للطوارئ ونظام إضاءة يعمل بالبطارية مع تركيز على أنظمة التهوية.

لكن الملاجئ تطورت مع تزايد الحاجة إلى قضاء فترات أطول داخلها، خاصة العامة والكبيرة منها، لتشمل مرافق إضافية على غرار أماكن للعبادة، وأماكن للدراسة وممارسة الرياضة، وغرف ألعاب وترفيه، وكذلك عيادات طبية وغرف عمليات للحالات المستعجلة، إضافة إلى مقاهٍ وحانات، وحتى قاعات رقص.

عنصرية على أبواب الملاجئ

رغم مساعي الحكومات الإسرائيلية، منذ احتلال فلسطين، لتصدير صورة متماسكة عن وحدة شعبها وتضامنه، نجح "طوفان الأقصى" في أكتوبر 2023 في دحض هذه الصورة، حيث انتشرت فيديوهات لإسرائيليين تجردوا من الإنسانية برفضهم السماح للأجانب بالاحتماء معهم.

وتعمّقت هذه الصورة خلال القصف الصاروخي الإيراني الأخير، حيث أغلقت الملاجئ أمام العرب والعمال الحاملين لجنسيات مختلفة، خاصة في المدن المختلطة، وقد رصدت تقارير حقوقية حالات عنصرية واضحة ضد غير اليهود.

كما تكشف خارطة توزيع الملاجئ في الأراضي المحتلّة حالة التمييز بين السكان، حيث تخلو المناطق التي يسكنها فلسطينيو 48 من التحصينات، كما أنّ صفارات الإنذار غالبًا ما تكون غير مفعّلة عند سقوط الصواريخ والشظايا.

 

الملاجئ في إسرائيل، رغم كل التضخيم الرسمي لدورها كحامٍ مطلق، لا يمكنها أن تخفي حقيقة أن هذه التحصينات، كما أكدت تقارير مثل التي نشرتها صحيفة "هآرتس"، ليست مخصصة لمواجهة الضربات المباشرة وقدرتها على الحماية ليست عالية كما يُروّج.

في النهاية، تظل هذه الملاجئ مجرد رمز زائف للأمن، بينما الحقيقة الأعمق تكمن في أنها تعكس حالة من الخوف المستمر، كما تكشف عن وجه آخر للتمييز العنصري الذي يمارسه الاحتلال حتى في أبسط حقوق الإنسان، وهو الحق في الأمان. فبينما يُمنح الأمان للمستوطن، يُحرم منه الفلسطيني الذي هو صاحب الأرض.

*أميرة العلبوشي